الأدب في العراق يتراجع بسبب الاحتلال

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
08/08/2007 06:00 AM
GMT



ضمن نشاطات اتحاد الأدباء والكتاب السنوي في نينوى، شمال مدينة بغداد، ألقى القاص نوزت شمدين محاضرة تمحورت حول موضوع "نصف قمر وهموم القصة العراقية".

قدّم الندوة القاص الناقد جاسم خلف الياس فقال "القاص نوزت شمدين من مواليد الموصل 1973، تخرج في قسم القانون 1999، بدأ النشر منذ عام 1995 في الصحف والمجلات العراقية والعربية، صدرت له رواية "نصف قمر" عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2002، وأسهم في جزأين من مجموعة القصص المشتركة "قصص من نينوى".

وأسهم في كتاب "الكتابة على موجة النار" الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2001 بقصة "كاوبوي" التي فازت بالجائزة التقديرية في مسابقة أم المعارك الإبداعية.

نوهت مسابقة الشارقة للإبداع عن قصته "نصف قمر" عام 2003، وفاز بالجائزة الأولى في مسابقة التضامن العربي التي يقيمها منتدى حماة عام 2006 عن قصة "لحن الأرصفة".

له عدة مخطوطات تنتظر الطبع منها رواية بعنوان "الأغا الصغير"، وقصص قصيرة بعنوان "لحن الأرصفة"، و"كاوبوي".

كان يكتب شعرا

وأضاف الناقد "كان القاص يكتب الشعر على استحياء قبل أن يصدر روايته "نصف قمر" وقصصه التي استبشر فيها وحينها الوسط الثقافي والمهتمون بالقصة القصيرة تحديداً خيراً وإبداعا جديداً، ولما أيقن بعدم استطاعته مغادرة الاجترار والتكرار في القول الشعري ودّع تلك الكتابة من دون أسف أو لوم."

وأضاف "أثارت روايته "نصف قمر" الكثير من النقاد والقصاصين وكتبوا عنها، إذ تجاوزت كتاباتهم الستين مقالة، فهل فكر أي منا أن يغمض عينيه لمدة يوم أو بعض يوم إغماضة كاملة لا يرى فيها الألوان أو الوجوه كما لا يرى الأشياء كيف تتقلب ألوانها من حوله، ويتداخل اللون الأصفر بالأخضر والأحمر بالأسود، فتترشح بفعل هذا التداخل ألوان جديدة بعيدة عن أصل الألوان قبل تداخلها."

حواس أربعة

وطرح الناقد سؤالاً آخر يتعلق بهل فكر أحد أن يعيش بحواسه الأربعة: اللمس والسمع والذوق والشم، ويسقط حاسته الخامسة (البصر) بعيداً كي يرى الوجه الآخر للشمس ويرى الليل دون النهار ويرى الأسود دون سائر الألوان الزاهية الأخرى؟

ثم أبدى الناقد رأيه برواية "نصف قمر" فقال "لو لم أكن قد التقيت بنوزت في ملتقى الرواية العراقية الذي عقد عام 2002 لقلت من دون تردد إن من كتب رواية "نصف قمر" يعاني العمى، ذلك أن الرواية على بساطتها وعفويتها قادرة على خلق حالة إقناع، إذ استطاعت أن تؤكد بصمة كاتبها الفنية وهي بصمة تستحق الإشادة والتحية."

وأضاف "قال قاص آخر إن عنوان الرواية لم يكن دقيقاً، ولم يأت معبراً عن أفق الرواية وشموليتها وحركتها الداخلية وصراعاتها وإرهاصاتها النفسية الحادة ومجمل عوالمها وإن بدا جميلاً في رومانسيته."

المعادل الشعوري والمضمرات النفسية

وقال عنها الناقد جاسم خلف "إن رواية "نصف قمر" رؤية طرحت متخيلاً واقعياً في بنية لغوية ذات قدرة بلاغية وإبلاغية، إذ استطاعت أن تخلق المعادل الشعوري وتوضح المضمرات النفسية والفكرية للنص وتجعله متعمقاً في التوصيل وذلك بإثارة التضاد الدلالي الذي يخلق أفقاً شعورياً وذهنياً رحباً متحركاً."

فهل أدى شوط التأليف، حسب ميلان كونديرا، فاعلية في متابعة موضوعاته من وجوهها المتعددة بدقة وتركيز؟ وهل خرجت شخصياته من يديه وتمردت حسب جورج أمادو؟ أي تخيلهم في البداية ثم تحركوا واتخذوا قراراتهم؟

وإذا كان الروائي يخضع لتأثير ثقافته الموسوعية لأنها في النهاية الصندوق الذي يتغذى منه لحظة الشروع بالكتابة، فهل يستطيع نوزت شمدين (والكلام للناقد) وصف محتويات ذلك الصندوق؟

أنا وعمتي

بعد ذلك تحدث القاص شمدين قائلاً "لن أتحدث بكلمات كبيرة عن تجربتي في الكتابة لأنها قد لا تعني شيئاً قياساً بتجارب الكثير من الأدباء الحاضرين في الجلسة، لكن لا ضير من أن استعرض بعض تفاصيل حياتي السابقة لما كان لها من عظيم أثر فيما أنتجه اليوم وما سأقدمه في الغد خصوصاً وأنني مقتنع تماماً بان الأديب لا يمكن أن يكتب عن شيء لا يعرفه.

أنحدر من أصل كردي وخطوتي الأولى في هذا العالم كتب لها أن تسير في مدينة الموصل بلا رعاية أبوية وطوال سنين كان عليّ باستمرار أن أتحمل خسارة أن لا أرى أياً منهما، وأن أفتش بالخيال عن حنان ما يعوضني، فلم أجده إلا في بطون الكتب أو الأحلام العابرة.

تكفلت عمتي بتربيتي كأي من أبنائها، وهناك في منزلها شرقي الموصل حيث سكنت أربعة وعشرين عاماً، قرأت أول كتاب وقع بين يدي وكان "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف.

الأغا الصغير

وكتبت أول نص لي "قصة نكرة" وهناك قبل أن أقبض على شهادتي في القانون بدأت مشروع روايتي الأولى "الأغا الصغير" التي هي أشبه ما تكون بسيرة ذاتية يلعب الإقطاعي والمختار أدواراً رئيسية فيها يسردها راوٍ عليم يتتبع سير صبي باحث عن أمه ينتقل من مدينة الموصل حاملاً معه نهر دجلة وتل قينجوق وبوابة نركال ونهر الخوصر ليمر بجبل بيه خير وكلي زاخو وجسر دلال ليستقر به المقام في غابة آدن على سفح جبل مطل على قرية دير شيش.

وهناك تدور أغلب أحداث الرواية. صعوبة العمل جعلتني أتريث كثيرا قبل إصداره، وكان لابد لي من عمل آخر يقدمني قبله وهكذا ومع نهاية عام 2001 انتهيت من "نصف قمر" التي صدرت في العام 2002 عن دار الشؤون الثقافية وحصلت في ذات العام على تنويه من مسابقة الشارقة للإصدار الأول، وبينما كنت أخطط لإطلاق "الأغا الصغير" مع نهاية عام 2003 وصل الاحتلال ليلغي مشاريعي بتداعياته التي فرضت حظرا للتجوال على الرؤية الصحيحة، فخفت أن لا يصل الصبي إلى منطقة آدن أبدا، أو أن يتهم بأنه من بقايا صورة قديمة.

وهكذا عدلت عن نشرها مجدداً ويبدو أنني سأترك لابنتي مريم هذه المهمة.

بعد أربعة أعوام من الاحتلال انتهيت من رواية جديدة، ولمرور خمسة أعوام على أول كتاب ينشر لي وقعت في الخطأ الفادح وأرسلتها إلى دار نشر معروفة في إحدى دول الجوار ليأتيني جواب بالرفض لم تبدد غموضه خمسة رسائل متتالية أرسلتها بحثاً عن السبب، حتى جاءتني رسالة قبل أيام قليلة من صديق لي على صلة بدار النشر تلك يبين لي فيها أنني لو قمت بإبدال بعض من الكلمات والأحداث التي لا تنقلها وسائل الإعلام لسارت الأمور على ما يرام.

فأقنعت نفسي مجددا بان عليّ الاعتماد على مريم في هذه الرواية أيضا."

واضاف الروائي "أما عن حماقة تسوري جدار الشعر فقد جاءت في مرحلة مراهقة أدبية ألمت بي في فترة من الفترات التي كنت أظن فيها بأنني سأغدو شاعرا، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً ولم أكن بحاجة لكي يخبرني أحد بأنني مجرد ناظم شعر فاشل فغيرت وجهتي.

وأحمد الله أنني فعلت ذلك قبل أن أقع بين يدي الشاعر رعد فاضل ومكائد الشاعر وليد الصراف وشباك الشاعر كرم الأعرجي العنكبوتية ولسان الشاعر عبدالله البدراني الطويل.

كاوبوي

وفي القصة القصيرة التي هي وبلاشك من أصعب فنون السرد كانت لي محاولات عدة ضمن مرحلة زمنية انتهت بقصة "كاوبوي" التي حظيت بتقديرية مسابقة دار الشؤون الثقافية عام 2002 متقدمة على مجموعة كبيرة من القصص التي شاركت بها أسماء لها ثقل كبير في المشهد الثقافي العراقي في حينه.

وأعترف بأنني لست راضيا عما نشرته من قصص بالرغم من الإطراء والمديح فهي ليست سوى تجارب قادتني إلى فائدة عظيمة، ربما ستتضح ملامحها في مجموعة مخطوطة أعكف على مراجعتها الآن ولا أعتقد بان مريم سيكون لها دور في طباعتها."

وعن القصة في مدينة الموصل خصوصاً والعراق عموماً قال القاص الروائي شمدين "أجد أنها لم تنفصل بعد عن منجزها السابق، وهي امتداد لمسيرة العقود الماضية أي أنها تستمد وجودها الحالي من تراكمية الماضي وما انتهت إليه قبل سنوات.

وهي ماضية في التجريب، وتوجد في الساحة العراقية تجارب عدة أغلبها جديدة لأسماء شباب لا أحد يستطيع الإمساك بها لكونها تتوزع هنا وهناك على صفحات الجرائد والمجلات التي يصعب حصرها، ولكن هذه التجارب لا تميز بشيء أو أنها لا تعلن عن نفسها بشكل صحيح مما يجعل الصورة القديمة والأسماء الراسخة هي المهيمنة رغم قلة الإنتاج وانصراف الأدباء لشؤون أخرى.

ولقد ثارت المنظومة الثقافية بشكل كبير، ولم تعد الدولة راعية للنشاطات الثقافية ولا تروج للكتاب كما أن هذا الفراغ لم يسد إلى الآن مما يجعل الأمر يبدو أشبه بفوضى، وما عدا التجارب الجديدة التي تعلن عن نفسها في الصحف والمجلات فإن مجمل الإنتاج القصصي العراقي أصابه الركود الأمر الذي يجعلنا نتوقف دائماً عند أسماء دون غيرها."

ويمكن القول (والكلام للقاص) إن ما قدمته القصة العراقية في مرحلة التسعينات من تجارب اعتبرها فذة هي التي تهيمن الآن أو أنها هي التي تتحكم بالمسار، فالاهتمام بالبيئة العراقية والفضاء المحلي عند كتاب القصة العراقية الجديدة هو الاختلاف السائد رغم مضي فترة زمنية طويلة على ظهور تلك القصص.

تراجع الإنتاج الأدبي بسبب الاحتلال

ويبدو أن تأثيرات الواقعية السحرية والمدارس اللاحقة ما تزال الورشة التي يعمل فيها القصاصون الجدد. وأعتقد (والكلام للقاص) أن آثار الماضي ستستمر طويلاً خاصة في ظل تراجع الإنتاج الأدبي بسبب الاحتلال وما تبعه من ظروف سياسية وأمنية واقتصادية عصفت بالبلاد.

فالمشروع الأدبي الجديد لم يبدأ بعد وعليه قد تمر فترة زمنية طويلة دون أي ظهور لعلامات تبشر بالخير، هذا فضلا عن تخوف كتاب القصة من ولوج عوالم مكتشفة حديثاً خشية اصطدامهم بحواجز كونكريتية أكثر مما كان يوجد في السابق.

إن السؤال عن كيفية تخطي آثار الماضي ما زال للأسف بلا أجوبة محددة وأظن أن الغموض سيشكل علامة فارقة لسنوات قادمة.

النقد الأدبي مرتبك

وعن النقد الأدبي في العراق أوضح القاص رأيه قائلاً إنه مرتبك وهو قليل العناية بالتجارب الجديدة لأسباب كثيرة، والحقيقة أننا نتجاوز كثيرا في إطلاق تعابير قد لا تجد القبول عند النقاد.

وأضاف إنني أتحدث عن القصة العراقية الجديدة، وهذا المصطلح قد لا يعني أي شيء بالنسبة للعديد من النقاد، وتوجد إشكالات كبيرة في هذا، فالناس الذين كانوا يمارسون النقد توقفوا عن أداء هذه المهمة الآن بسبب تخوفهم من ماضيهم.

كما أن العديد من النقاد تركوا النقد وانشغلوا بأمور أخرى مختلفة وبقي الحال على ما كان عليه قبل الاحتلال عندما كان الأدباء يكتبون عن بعضهم البعض ويمدحون أنفسهم لقاء كلمة خير تقال لاحقاً في قصصهم.

وإذا ما رجعنا إلى ما كان يكتب في السابق عن الجيل الجديد في القصة فلن نجد ما يرضي، أو أن الاهتمام لم يكن ينصب إلا على جيل الستينيات والسبعينيات والثمانينات، على اعتبار أن هذه الأجيال أكثر رسوخا أو أنها أسهل في التناول من غيرها، ومع هذا استطاع العديد من كتاب القصة البروز وبقوة وإثبات وجودهم ولفت الأنظار، وأعتقد أن النقد لن ينسى تجاربهم مهما ابتعد أو طالت به الغيبة.

وعن الجيل الجديد من الأدباء قال القاص إنه في ظل التوجه الحالي نحو الرواية في العراق لم تعد القصة في المقام السردي الأول، والعالم الآن شديد الاهتمام والشغف بالرواية والعديد من الأدباء الشباب حاولوا كتابة الرواية وتوجد أمثلة قريبة في هذا، ونستطيع أن نحصي أكثر من سبع روايات صدرت في عام 2002 لكتاب شباب داخل العراق وهذا رقم لا بأس به.

الأميركان في بيتي

وقبل هذا التاريخ كانت هناك تجارب مميزة في كتابة القصة وأغلب كتّاب القصة الشباب توجهوا إلى كتابة الرواية، وأنا على علم بوجود مخطوطات مهمة تنتظر النشر في مجال الرواية كتبها أصدقاء يتوزعون على محافظات العراق وعلى رأسهم القاص الكبير نزار عبد الستار الذي يستعد لإطلاق روايته الثانية "الأميركان في بيتي".

ويعتقد القاص أن القصة القصيرة تبقى الميدان الأصعب بالنسبة للكثيرين لأنها تحتاج إلى مهارة عالية وقدرة فائقة على التقاط اللحظة، كما توجد تجارب روائية أثبتت فشلها حاول بها كتّاب القصة القصيرة أن يغامروا في الخروج بنص طويل ولكنهم لم يتمكنوا من الحصول على الاستحسان.

وتساءل القاص هل سيعمد القصاصون إلى استثمار الواقع الحالي في أعمالهم الأدبية بالقوة نفسها التي نجدها في الحياة اليومية للمواطن العراقي؟

نعاني من عدم وضوح الرؤية

وأجاب على تساؤله قائلا في الحقيقة لا توجد بوادر تشير إلى أن شيئا من هذا سيحدث فنحن في العراق مازلنا في حالة من عدم وضوح الرؤية.

وتمنى القاص أن تتمكن القصة من استثمار الواقع اليومي الصعب، وأن تنتج أدباً راقياً، كما راهن في نهاية الجلسة على أن العالم كله ينتظر وبشغف كبير ما ستنتجه عقول الإبداع العراقي، وهو ما يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، وإن أخفقنا نحن فمن المؤكد أن الجيل القادم سيقول كل شيء عوضاً عنا.

مناقشون

وخلال فترة المناقشة شارك العديد من الأدباء ومنهم الدكتور عبد الستار عبدالله، الدكتور جلال جميل، الدكتور أحمد جارالله، الشاعر عبدالله البدراني، صباح سليم، الشاعر رعد فاضل وآخرون.

"نصف قمر" تصيب قارئها بالعمى

وفي قراءة لرواية "نصف قمر" قال الشاعر كرم الاعرجي وتحت عنوان "البصر الذي سكب ماءهُ على بلاط الوسادة"، إن الرواية صدرت عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، وهي بمثابة رواية ضاجة بـ (البانوراما) والامتثال أمام المزايا الواقعية التي يتحلى بها الروائي.

إنها انسجام بيئي مع حيثيات المعرفة و(بوطيقيا) الأدب، وقد استخدم وعيه في نسيج يراهن على تفكيك مخيلته عبر أشواط العمر التي مرّ بها.

إنها مونودارما قصصية يتبناها لغةً لكي تكون رواية يغرق بين مفاتن أحداثها العوم في هذا البحر الصعب الذي تنتجه تأملات الروائي نوزت شمدين، هذا المغامر والمغاير بطرحه وبتجديد مادة المعنى سردياً على مستوى الحكي.

إن المفتتح الذي ارتكز عليه هو جملة يختفي وراءها الخبر ثم ينحدر من أعالي بنيتها لطرح الفهم الموصول بها عبر مجسات صوتيه تتألف مكونه هذا الأسلوب الغارق في التفاصيل وبدلالات محمية ترجف القلب بتقلبات الصياغة المشهدية لعالم البطل (عادل) حيث يقول "انطفأ العالم".

ومن هنا بدأ يفتح الأسرار كاشفاً للمعنى دلالات أخرى تخضع التأويل في فك الرموز (بديالوجات) الداخل الحسي له و(مونولوجات) الخارج المضاف إليه فتتحول النتائج إلى (مونودراما) مصرية فيها من التناقضات والصدمات سعة انطفاء البصر وانشغال البصائر، إنه يرى العالم المستور مفضوحا بحريقه ومن هنا تتكون في أفقه صورة الإرادة ليفعل المواجهة مع الحياة.

"عثرت أصابعي على مفتاح الضوء، فعلمت أنني احتاج إلى خطوة أخرى"، والآمال مفتوحة أمام البطل الأعمى.

وهكذا يقتفي أثر الشخصيات لحظة بلحظة بما يراه حجة له في سرد أحداث متتابعة تتمايز فيه الأصوات والإشارات التي جعل منها عالما مشحونا بدهشة الإيضاح بحيث جعل من دلالاته وجبه يومية يتأملها وصفا مليئا بما ينسكب من مخيلته التي رسمت لهذه الشخصية المفترضة دلالة وجود.

"شيء مؤلم أن نملك الضوء ولا نهتم بعالم اللون الأسود."

وبما انه أحال هذا العماء إلى إرث جيني أصاب شخصيته النادرة بالكبت النفسي، بحيث لعن من خلاله سلالة هذا المرض لما قدر له أنه يعيش معاناته بعد أن كان ممتعا بتفانيه ومخلصا طموحا في خدمته للوظيفة التي يشغل منصبها.

أسير العماء

إنها فجأة التحوّل القدري الذي أحاله أسيراً لهذا العماء، ومن هنا تجرشه الحوارية برحى الصدمات، فأخذ يتحسس الأشياء التي كانت صوراً، والرموز الاجتماعية التي تحيطه متاهة للحديث الصامت فأصر على المواجهة للبحث عن اكتشاف ما يسرهُ بعد هذا الألم.

"جرحني الصوت ما أن أخذ الصباح ينشط خارقا حجابات الجدران والنوافذ والستائر المسدلة، مهاجما سمعي بضجيجه وعنفه."

وهنا عزفت الحياة لحنها الحزين الذي أغرقه في المتاهة.

وبما أن فن القطع المشهدي كان دقيقا يتآلف بحبكة مع أحداث دراما الذات قد صورت بعين السينمائي المبتكر، فالدفاع عن نفسه أمام أخيه (مصطفى) الثري القلق والقاسي سلوكيا من وجهة نظر الناص، كان شديد التعقيد، (ما حدث حدث وانتهى الأمر) وكذلك شخصية أمه الحنون (سمعت رنة صدرها وهي تضربه بقسوة) وزوجة أخيه الصالحة "وعادة ما كانت تنقذني في اللحظة الأخيرة." ومرايا أخرى لوجوه أقاربه الخالة وابنتها وزوجها السوري والخال الخ.

"تجاوبت مشاعري مع تلك الاحتفالية ورحت أبادلهن الحزن بالحزن" وخيط ذاكرته المرتبط روحيا بالموظفة (أسماء) التي تشكو من عرج أصاب ساقها، وهي بمثابة حبيبة حميمة وإحساسها بالعاهة كما هو إحساسه بمرض العماء "تحشرج صوتها وهي تقول: لقد تركت فراغا، وبإجابة مؤلمة، أنا الآن أعمى يا أسماء." وإخلاص الطبيب لمهنته الإنسانية "تعامل بخفه مدربه مع أدواته."

والطريق الذي خاصمه بالعثرات والعكاز التي أخجلت بصيرته، والشخصيات المرسومة على مساحة الرواية كانت كثيرة في الدائرة والبيت والشارع، والتقليد الاجتماعي في كل مكان بيئة نسيجية بما فيها من متناقضات، وبتواشج قصدي عند الناص من أجل خلق بنية للمعمار الحواري جاءت مدروسة في المشاهد برغم قفزاته في التقطيع فالدخول إلى مشاهد أخرى تدور أحداثها بأجواء مختلفة كانت مختزله وسريعة التبرير منطلقاً من مبدأ الشخصية التي يقابلها مبدأ الفن عند الناص، ويبقى مستمرا حتى "يصل القلب حلقه" عندما يسمع صوت أسماء بإطلالتها عليه وهي تحييه بـ "صباح الخير" وهنا دبت به الحياة وكله أمل حين التصقت ذراعها بذراعه.

وبعد كل هذا الوجع والصراع مع الذات والمجتمع أخذ (عادل) يفرح بإرادته التي سحقت الكثير من أجل أن يرى النور بعيني أسماء وينتزع الحياة من ظلمته منتصرا على العمى. وهكذا ترك عصاه مغمورا بمرح التوحد مع أسماء.

انسلاخ الذات

إن الذي أثارني في هذا الروائي، تتجلى أبعاد مخيلته برؤية تفاعليه، تجعلك تنقب بفضاءاته عند عقلنة معانيه، فرواية "نصف قمر" هي انسلاخ الذات وفرشها على (أحافير) الواقعية والتي تعني النشوء الميت لخلق روح جديدة تنبض بالحياة.